سورة النحل - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه.
وقد قيل: إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل: إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك. وقيل: إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية. ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال: {فإياي فارهبون} أي: إن كنتم راهبين شيئاً، فإياي فارهبون لا غيري.
وقد مرّ مثل هذا في أول البقرة.
ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال: {وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض} وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض} إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} أي: ثابتاً واجباً دائماً لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص. قال الفراء {وَاصِبًا} معناه دائماً، ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** بذمّ يكون الدهر أجمع واصبا
أي: دائماً.
وروي عن الفراء أيضاً أنه قال: الواصب: الخالص، والأوّل أولى، ومنه قوله سبحانه: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي دائم.
وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبداً. ففسر الواصب بالواجب.
وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلاّ انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى، فإن الطاعة تدوم له. ففسر الواصب بالدائم. وإذا دام الشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت.
يقال: وصب الشيء يصب وصوباً، فهو واصب: إذا دام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه. وقيل: الوصب التعب والإعياء، أي: يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدّر، كما في نظائره. والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره.
ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره، فقال: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ} أي: ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله، أي: فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و{بكم} صلتها، و{من نعمة} حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان ل {ما}. وقوله: {فَمِنَ الله} الخبر، وعلى كون {ما} شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً، أي: ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به. وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية، أو خارجية، كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه، فعلى العاقل أن لا يشكر إلاّ إياه، ثم بين تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} أي: إذا مسكم الضرّ أيّ مس، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه، فلا كاشف له إلاّ هو. يقال: جأر يجأر في لسان العرب جؤاراً: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة *** وكان النكير أن تطيف وتجأرا
والضرّ: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ {إذا فريق} أي: جماعة منكم بربهم الذي رفع الضر عنهم يشركون، فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء، حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر من كفر، وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون {من} في {منكم} للتبعيض، حيث كان الخطاب للناس جميعاً. والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار، ف {من} للبيان، واللام في {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} لام كي، أي: لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية. وقيل: اللام للعاقبة، يعني: ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلاّ هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب {فَتَمَتَّعُواْ} بما أنتم فيه من ذلك {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم، وما يحل بكم في هذه الدار، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة.
ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} أي: يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم، وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيباً مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه. وقيل: المعنى أنهم، أي الكفار يجعلون للأصنام، وهم لا يعلمون شيئاً لكونهم جمادات، ففاعل {يعلمون} على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون، جرياً على اعتقاد الكفار فيها، وحاصل المعنى: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام. التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها {تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب. وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله {سبحانه} نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن {ما} في محل نصب بالفعل المقدّر، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء. وأنكر النصب الزجاج. قال: لأن العرب لا يقولون: جعل له كذا، وهو يعني نفسه، وإنما يقولون: جعل لنفسه كذا، فلو كان منصوباً، لقال: ولأنفسهم ما يشتهون.
وقد أجاز النصب الفراء.
ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال: {وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} أي: إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا} أي: متغيراً، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً: قد اسود وجهه غماً وحزناً. قاله الزجاج.
وقال المارودي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال: وهو قول الجمهور، والأوّل أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلاّ مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي. وجملة {وَهُوَ كَظِيمٌ} في محل نصب على الحال، أي: ممتلئ من الغمّ غيظاً وحنقاً. قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغمّ. مأخوذ من الكظامة، وهو سدّ فم البئر قاله عليّ بن عيسى، وقد تقدّم في سورة يوسف.
{يتوارى مِنَ القوم} أي: يتغيب ويختفي {مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} أي: من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} أي: لا يزال متردّداً بين الأمرين، وهو إمساك البنت التي بشر بها، أو دفنها في التراب {على هُونٍ} أي: هوان.
وكذا قرأ عيسى الثقفي. قال اليزيدي: والهون: الهوان بلغة قريش. وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة، قالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفو *** س يوم الكريهة أبقى لها
وقال الفراء: الهون: القليل بلغة تميم.
وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ: {أيمسكه على سوء} {أم يدسه في التراب} أي: يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّداً بين هذين الأمرين. والتذكير في {يمسكه} و{يدسه} مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. وقرأ الجحدري {أم يدسها في التراب} ويلزمه أن يقرأ: {أيمسكها} وقيل: دسها: إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم. ومثل هذا قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21 22].
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} أي: لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة {مثل السوء} أي: صفة السوء من الجهل والكفر بالله. وقيل: هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد. وقيل: هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم. ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق. وقيل: العذاب والنار {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز؛ وقيل: شهادة أن لا إله إلاّ الله وقيل {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35]. {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغالب، فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به {الحكيم} في أفعاله وأقواله.
ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم، بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ولم يؤاخذهم بظلمهم، فقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} والمراد بالناس هنا: الكفار، أو جميع العصاة {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي: على الأرض، وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة. فإن الجميع مستقرّون على الأرض، والمراد بالدابة الكافر، وقيل: كل ما دبّ.
وقد قيل على هذا: كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاماً منه، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم، فبشؤم ظلم الظالمين، ولله الحكمة البالغة {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ومثل هذا قوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم» وكذلك حديث الجيش الذين يخسف بهم في البيداء، وفي آخره: أنهم يبعثون على نياتهم وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه: {واتقوا فِتْنَةً} [الأنفال: 25] الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} معلوم عنده، وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم، أو أجل عذابهم. وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} الذي سماه لهم، حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه، والساعة المدة القليلة، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه.
ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي: ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير، ولزيادة التوبيخ والتقريع {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم، وهو، أي: هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب، هو قولهم: {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي: الخصلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى. قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن. قال الزجاج أيضاً والفراء: أبدل من قوله: {وتصف ألسنتهم الكذب} قوله: {أن لهم الحسنى} و{الكذب} منصوب على أنه مفعول {تصف}. وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن محيصن {الكذب} برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن. وهو جمع كذب، فيكون المفعول على هذا هو {أن لهم الحسنى}.
ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} أي: حقاً أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار، وقد تقدّم تحقيق هذا {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار. وبه قال الكسائي والفراء، فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي: إذا خلفته ونسيته.
وقال قتادة والحسن: معجلون إليها، مقدّمون في دخولها، من أفرطته، أي: قدّمته في طلب الماء، والفارط: هو الذي يتقدّم إلى الماء. والفراط: المتقدّمون في طلب الماء، والورّاد: المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض»، أي: متقدّمكم، قال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فرّاط لورّاد
وقرأ نافع في رواية ورش {مفرطون} بكسر الراء وتخفيفها. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. ومعناه: مسرفون في الذنوب والمعاصي. يقال: أفرط فلان على فلان: إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشرّ.
وقرأ أبو جعفر القاري {مفرطون} بكسر الراء وتشديدها، أي: مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب. وقرأ الباقون {مفرطون} بفتح الراء مخففاً. ومعناه: مقدمون إلى النار.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} قال: {الدين} الإخلاص، و{واصباً} دائماً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} قال: لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَاصِبًا} قال: دائماً.
وأخرج الفريابي، وابن جرير عنه: قال واجباً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {تَجْئَرُونَ} قال: تتضرعون دعاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: تصيحون بالدعاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال: وعيد.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} الآية، قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرّهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال: هم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله، وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية، قال: هو قولهم {هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136].
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} الآية، يقول: يجعلون لي البنات يرتضونهنّ لي، ولا يرتضونهنّ لأنفسهم. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} قال: يعني به: البنين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج {أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب} قال: يئد ابنته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} قال: بئس ما حكموا، يقول: شيء لا يرضونه لأنفسهم، فكيف يرضونه لي.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس {وَلِلَّهِ المثل الاعلى} قال: يقول ليس كمثله شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} قال: ما سقاهم المطر.
وأخرج أيضاً عن السدّي نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في الآية، قال: قد فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حمل في سفينته.
وأخرج أحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره، ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم. ثم قرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه. قال أبو هريرة: بلى، والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} قال: يجعلون لي البنات، ويكرهون ذلك لأنفسهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} قال: قول كفار قريش: لنا البنون، وله البنات.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} قال: منسبون.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة قال: معجلون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه.


بيّن سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم، فقال: مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} أي: رسلاً {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} الخبيثة {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} يحتمل أن يكون ليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الوليّ بمعنى الناصر. والمراد: نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصراً فيه، لزم أن لا نصرة من غيره. ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأوّل: أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية. والمراد: تزيين الشيطان لكفار قريش، فيكون الضمير في {وليهم} لكفار قريش: أي فهو وليّ هؤلاء اليوم. أو على حذف مضاف، أي: فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة، وهو عذاب النار.
ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلاّ بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم، فقال: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذى اختلفوا فِيهِ} وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب: القرآن، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي: ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلاّ لعلة التبيين لهم، أي: للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد، وأحوال البعث، وسائر الأحكام الشرعية، وانتصاب {هُدًى وَرَحْمَةً} على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين. ولا حاجة إلى اللام، لأنهما فعلاً فاعل الفعل المعلل، بخلاف التبيين، فإنه فعل المخاطب، لا فعل المنزل: {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله سبحانه، ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب.
ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال: {والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} أي: من السحاب، أو من جهة العلو كما مرّ، أي: نوعاً من أنواع الماء {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الإنزال والإحياء {لآيَةً} أي: علامة دالة على وحدانيته، وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر، ويتفكرون في خلق السموات والأرض.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً} الأنعام هي: الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز.
والعبرة أصلها: تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة. ومنه {فاعتبروا ياأولى الأبصار} [الحشر: 2].
وقال أبو بكر الوارق: العبرة في الأنعام: تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ} فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر {نسقيكم} بفتح النون، من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، قيل: هما لغتان. قال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى *** نميراً والقبائل من هلال
وقرئ بالتاء الفوقية، على أن الضمير راجع إلى الأنعام. وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه، وهما ضعيفتان. وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير. وقيل: إن بين سقى وأسقى فرقاً، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال: سقيته، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له، قيل: أسقاه. والضمير في قوله: {مّمَّا فِى بُطُونِهِ} راجع إلى الأنعام. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد.
وقال الزجاج: لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال: هو الأنعام، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير.
وقال الكسائي: معناه: مما في بطون ما ذكرنا، فهو على هذا عائد إلى المذكور. قال الفراء: وهو صواب.
وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير، مثل قوله للشمس {هذا رَبّى} [الأنعام: 78] يعني: هذا الشيء الطالع. وكذلك: {وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35]، ثم قال: {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} [النمل: 36]، ولم يقل: جاءت؛ لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا. انتهى، ومن ذلك قوله: {كَلاَّ إِنَّه تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55] ومثله قول الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله ***
ولم يقل: حواصلها. وقول الآخر:
وطاب ألبان اللقاح وبرد ***
ولم يقل: وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث؛ لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة: وحكي عن الفراء أنه قال: النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. وهو كقول الزجاج. ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة. فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} الفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث، ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثاً، وأعلاه دماً وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو {خَالِصًا} يعني: من حمرة الدم، وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} أي: لذيذاً هنيئاً، لا يغصّ به من شربه: يقال: ساغ الشراب، يسوغ سوغاً، أي: سهل مدخله في الحلق.
{وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} قال ابن جرير: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف {ما} ودلّ على حذفه قوله: {منه}. وقيل: هو معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة. ويجوز أن يكون معطوفاً على {مما في بطونه} أي: نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل. ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق ب {تتخذون} تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير في {منه} لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف، وهو العصير، كأنه قيل: ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، والسكر: ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن: جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل. وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر. وقيل: إن السكر الخلّ بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين. وقيل: السكر: العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً؛ لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول الأوّل أولى وعليه الجمهور، وقد صرّح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو عبيدة، فإنه قال: السكر: الطعم، ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر:
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم *** إذا جرى فيهم الهذي والسكر
ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده:
جعلت عيب الأكرمين سكرا ***
أي: جعلت ذمهم طعماً، ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف. والمعنى واحد، مثل {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} [يوسف: 86]. قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه. ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ. قالوا: وإنما يمتنّ الله على عباده بما أحله لهم، لا بما حرّمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. ا ه. {إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لدلالة لمن يستعمل العقل، ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.
{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} قد تقدّم الكلام في الوحي، وأنه يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7- 8]. ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيى بن وثاب {إلى النحل} بفتح الحاء. قال الزجاج: وسمي نحلاً، لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري: والنحل والنحلة: الدبر، يقع على الذكر والأنثى {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا} أي: بأن اتخذي على أن (أن) هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية؛ لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدّم، أو للحمل على المعنى، أو لكون النحل جمعاً. وأهل الحجاز يؤنثون النحل و{من} في {من الجبال بيوتاً} وكذا في {مّنَ الشجر} وكذا في {مّمَّا يَعْرِشُونَ} للتبعيض، أي: مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال، وتجويف الشجر، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها. وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال: عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة، وقرأ الباقون بالكسر. وقرئ أيضاً {بيوتاً} بكسر الباء وضمها.
{ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} {من} للتبعيض، لأنها تأكل النور من الأشجار، فإذا أكلتها {فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ} أي: الطرق التي فهمك الله وعلمك، وأضافها إلى الربّ لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها، أي: ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور عسلاً، أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تضلين فيها، وا نتصاب {ذُلُلاً} على الحال من السبل، وهي جمع ذلول، أي: مذللة، غير متوعرة، واختار هذا: الزجاج وابن جرير. وقيل: حال من النحل، يعني: مطيعة للتسخير، وإخراج العسل من بطونها، واختار هذا ابن قتيبة.
وجملة {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} مستأنفة عدل به عن خطاب النحل، تعديداً للنعم، وتعجيباً لكل سامع، وتنبيهاً على الغير، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب. والمراد: بالشراب هو العسل، ومعنى {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أن بعضه أبيض، وبعضه أحمر، وبعضه أزرق، وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألونها ومأكولاتها. وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل. وقيل: من أسفلها. وقيل: لا يدري من أين يخرج منها، والضمير في قوله: {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل، وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وقال الفراء، وابن كيسان، وجماعة من السلف: إن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير: فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين.
وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض؟ فقالت طائفة: هو على العموم، وقالت طائفة: إن ذلك خاص ببعض الأمراض. ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلاّ على أن فيه شفاءً عظيماً لمرض أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب، أنه إذا استعمل منفرداً، كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها، كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية، وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور من أمر النحل {لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته. فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} قال: السكر ما حرم من ثمرتهما، والرزق الحسن ما حلّ.
وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال: السكر: الحرام، والرزق الحسن: زبيبه وخله وعنبه ومنافعه.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: السكر: النبيذ، والرزق الحسن: الزبيب. فنسختها هذه الآية {إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال: فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه، ثم قال: {وَرِزْقًا حَسَنًا} فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر، فقال: الخمر بعينها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود قال: السكر: خمر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} قال: ألهمها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً} قال: طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته.
وأخرج عبد الرازق، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة {ذللاً} قال: مطيعة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: ذليلة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} قال: العسل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هو العسل فيه الشفاء، وفي القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن مسعود قال: إن العسل شفاء من كل داء. والقرآن شفاء لما في الصدور.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن.
وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن السني، وأبو نعيم، والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن»
وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء: منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ».
وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أخي استطلق بطنه، فقال: «اسقه عسلاً، فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: سقيته عسلاً، فما زاده إلاّ استطلاقاً، قال: إذهب فاسقه عسلاً فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلاّ استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه عسلاً فبرأ».


لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة، أتبعه بعجائب خلق الإنسان، وما فيه من العبر فقال: {والله خَلَقَكُمْ} ولم تكونوا شيئاً {ثُمَّ يتوفاكم} عند انقضاء آجالكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} يقال: رذل يرذل رذالة، والأرذل والرذالة: أردأ الشيء وأوضعه. قال النيسابوري: واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولاها سنّ النشوّ، وثانيها: سنّ الوقوف، وهو سنّ الشباب، وثالثها: سنّ الانحطاط اليسير، وهو سنّ الكهولة، ورابعها: سنّ الانحطاط الظاهر، وهو سنّ الشيخوخة. قيل: وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف، وهو أن يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا عقل له؛ وقيل: خمس وسبعون سنة، وقيل: تسعون سنة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} [التين: 4- 5] ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} كان قد حصل له {شَيْئاً} من العلم، لا كثيراً ولا قليلاً، أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم. وقيل: المراد: بالعلم هنا العقل، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك.
ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر، ذكر طرفاً من أحواله، لعله يتذكر عند ذلك، فقال: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق} فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال، وقيل: معنى الآية: أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم، بدليل قوله: {فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي: فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك {فَهُمُ} أي: المالكون والمماليك {فِيهِ} أي: في الرزق {سَوَآء} أي: لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ، أي: لا يردّونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي، وإنما يردّون عليهم منه شيئاً يسيراً، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام، أي: إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء، ولا ترضون بذلك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء.
والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه؟ أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة؟ ذكر معنى هذا ابن جرير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} [الروم: 28] وقيل: إن الفاء في {فهم فيه سواء} بمعنى حتى {أَفَبِنِعْمَةِ الله تجحدون} حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك.
وقد قرئ: {يجحدون} بالتحتية والفوقية. قال أبو عبيدة، وأبو حاتم: وقراءة الغيبة أولى، لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً، لكان ظاهره للمسلمين، والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر، أي: يشركون به، فيجحدون نعمته، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكم، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم، فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئاً، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم، وهم جميعاً في ذلك سواء، لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدّر فعلاً يناسب هذا المعنى، كأن يقال: لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله. ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قال المفسرون: يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم. أو المعنى: خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها، لأن الجنس يأنس إلى جنسه، ويستوحش من غير جنسه، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج، ولهذا قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً} الحفدة: جمع حافد، يقال: حفد يحفد حفداً وحفوداً: إذا أسرع، فكل من أسرع في الخدمة، فهو حافد، قال أبو عبيد: الحفد: العمل والخدمة. قال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب: الخدم، ومن ذلك قول الشاعر، وهو الأعشى:
كلفت مجهولنا نوقا يمانية *** إذ الحداة على أكتافها حفدوا
أي: الخدم والأعوان.
وقال الأزهري: قيل: الحفدة أولاد الأولاد.
وروي عن ابن عباس، وقيل: الأختان. قاله ابن مسعود، وعلقمة، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، ومنه قول الشاعر:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حفد مما تعدّ كثير
ولكنها نفس عليّ أبية *** عيوف لأصهار اللئام قذور
وقيل: الحفدة الأصهار. قال الأصمعي: الختن: من كان من قبل المرأة، كابنها، وأخيها وما أشبههما. والأصهار منهما جميعاً. يقال: أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر. وقيل: هم أولاد امرأة الرجل من غيره. وقيل: الأولاد الذين يخدمونه. وقيل: البنات الخادمات لأبيهنّ.
ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد، لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة.
فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين، وإن كان يجوز أن يكون المعنى: جعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدة. ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم، وبالحفدة من يخدم الأب منهم، أو يراد بالحفدة البنات فقط. ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلاّ إذا كان تقدير الآية: وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة.
{وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} التي تستطيبونها وتستلذونها، و{من} للتعبيض؛ لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلاّ في الجنة، ثم ختم سبحانه الآية بقوله: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} والاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدّر، أي: يكفرون بالله، فيؤمنون بالباطل، وفي تقدّم {بالباطل} على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به. والباطل: هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع. وقيل: الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما. قرأ الجمهور {يؤمنون} بالتحتية، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب {وبنعمة الله هم يكفرون} أي: ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر. وفي تقديم النعمة، وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} هو معطوف على {يكفرون} داخل تحت الإنكار التوبيخي، إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام، وهي لا تنفع ولا تضرّ، ولهذا قال: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً} قال الأخفش: إن {شيئاً} بدل من الرزق.
وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، فجعل {رزقاً} مصدراً عاملاً في {شيئاً} والأخفش جعله اسماً للرزق. وقيل: يجوز أن يكون تأكيداً لقوله: {لا يملك} أي: لا يملك شيئاً من الملك، والمعنى: أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً، أيّ رزق، و{من السموات والأرض} صفة لرزق، أي: كائناً منهما، والضمير في {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} راجع إلى {ما} وجمع جمع العقلاء بناءً على زعمهم الباطل، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة التملك بطريق من الطرق. فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع. وقيل: يجوز أن يكون الضمير في {يستطيعون} للكفار، أي: لا يستطيع هؤلاء الكفار، مع كونهم أحياء متصرّفين، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرّف؟
ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه، فقال: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة. قال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له، وكانوا يقولون: إن إله العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك، وعلل النهي بقوله: {إِنَّ الله} عليم {يَعْلَمْ} ما عليكم من العبادة {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ما في عبادتها من سوء العاقبة، والتعرّض لعذاب الله سبحانه، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختلّ، ويجوز أن يراد فلا تضربوا الله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.
وقد أخرج ابن جرير عن عليّ في قوله: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} قال: خمس وسبعون سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: هو الخرف.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: من قرأ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس، قال: العالم لا يخرف.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوّذ بالله أن يردّ إلى أرذل العمر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق} قال: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هذا مثل لآلهة الباطل مع الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قال: خلق آدم، ثم خلق زوجته منه.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الحفدة: الأختان.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: الحفدة: الأصهار، وأخرجا عنه، قال: الحفدة: الولد وولد الولد.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الحفدة بنو البنين.
وأخرج ابن جرير، عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: من أعابك فقد حفدك، أما سمعت الشاعر يقول:
حفد الولائد حولهنّ وأسلمت *** بأكفهن أزمة الأجمال
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً، قال: الحفدة: بنو امرأة الرجل، ليسوا منه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} قال: الشرك.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: هو الشيطان {وبنعمة الله} قال: محمد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية، قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها {رِزْقًا مّنَ السموات والأرض} ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الامثال} فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} يعني: اتخاذهم الأصنام. يقول: لا تجعلوا معي إلهاً غيري، فإنه لا إله غيري.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6